في قرية صغيرة تسكنها الأساطير بين ثنايا الجبال الشاهقة، كان يعيش شاب يُدعى عمران. كان عمران شاباً طموحاً، يملؤه الحماس والرغبة في النجاح وتحقيق الذات. لكن عمران كان يمتاز بصفة قد تكون نقمة بقدر ما هي نعمة؛ فقد كان يتصرف بتهور دون تفكير في عواقب أفعاله. ولطالما قالت له والدته، “يا بُني، من يقع بنفسه لا يبكي”.
في يوم من الأيام، أقيم مهرجان في القرية يستضيف مسابقات بين الشباب لإظهار مهاراتهم في الصيد وركوب الخيل والشعر. كان عمران مفتوناً بفكرة أن يصبح الأفضل بين أقرانه، وأن يُنظر إليه كبطل لا يُهزم. فقرر المشاركة في جميع المسابقات، معتمداً على مهاراته الطبيعية وثقته بنفسه التي لا تتزعزع.
دخل عمران مسابقة الصيد بحماس لا يعرف الحدود. خرج مع الفجر الأول، حاملاً قوسه المصنوع من خشب السنديان القوي ومجموعة من السهام الحادة التي يتقن صناعتها الصيادون القدامى في القرية. كانت الغابة تستقبله بضباب كثيف يتسلل بين الأشجار العالية، مما يضفي على المكان سحراً غامضاً يزيد من حماسه وترقبه.
مضى عمران يتتبع أثر الغزال بعناية، معتمداً على حاسة بصر قوية وخبرة جيدة في التعقب. الأرض كانت مغطاة بأوراق الشجر المتساقطة التي كانت تخفي تحتها العديد من الأسرار. ومع كل خطوة، كان يحس بأنه يقترب أكثر فأكثر من هدفه، متناسياً التحذيرات التي كثيراً ما تلقاها عن خطورة الغابة الكثيفة.
لكن في لحظة غفلة، وبينما كانت عيناه تتابعان ظل الغزال الذي بدا يلوح في الأفق، لم يلاحظ عمران المستنقع الكبير الذي كان يختبئ خلف الأوراق الرطبة. بخطوة غير محسوبة، وجد نفسه يغوص في المستنقع حتى خصره، حيث التفت الطين اللزج حوله كعناق مصيد. جاهد عمران لساعات، يحاول جاهدًا أن يتحرر من قبضة الطين العنيد، متسخاً بالوحل ومحاطاً بأصوات الغابة الغامضة.
كان كل دقيقة تمر تزيد من إدراكه أن فرصته في الفوز بالمسابقة قد تلاشت كالضباب الذي كان يغطي الغابة صباحاً. وعندما تمكن أخيراً من الخروج، كانت الشمس قد بدأت تنحدر نحو الغروب، والفرصة قد ضاعت. عاد عمران إلى القرية مخبوط الخطو، لكنه لم يعتبر ما حدث فشلاً بقدر ما اعتبره نتيجة سوء حظ عابر، متناسيًا أن الحذر كان يمكن أن يجنبه هذا الموقف برمته.
وفي يوم تلألأت فيه الشمس عاليًا مُعلنةً ميعاد مسابقة ركوب الخيل، وقف عمران مُمسكًا بزمام حصانه الأسود الذي ينبض بالقوة والعزيمة. كانت المنافسة تتوهج كنار في الهشيم، وكل فارس يسعى لنقش اسمه على جدران الفخر والمجد. عمران، الذي طالما رُسمت على جبينه طموحات عريضة، دفع بحصانه نحو الأفق البعيد، يخترق أمواج الهواء كسهمٍ مُنطلقٍ من قوسٍ لا يعرف الخطأ.
لكن، ما لبثت الأحلام أن تعثرت بواقع الطريق المؤدي إلى النهر، ذلك الطريق الذي يحكى عنه القدماء بأنه يسكنه الخطر كظلٍ يتبع صاحبه. رغم التحذيرات التي أُطلقت كأصداء بين جنبات القرية، أن الطريق زلقٌ ويخبئ في طياته الوحل والماء، إلا أن عمران مضى مُتجاهلاً، مُغرمًا بفكرة النصر الذي ظنه قريبًا.
لم يدر في خلد عمران أن الطريق لم يكن مجرد زلق، بل كان كفخٍ مُنصوبٍ للمغرورين. ففي لحظةٍ كانت كلمح البصر، خانت الأقدام الثابتة حصانه، فانزلقت به كظلالٍ في الماء. وهكذا، مع كل حفيف ورق يراقب السقوط، تهاوى الحصان وعمران في أحضان النهر البارد، وكأن القدر يُريد أن يُعلمه درسًا بأن الطموح بلا حكمة كسفينةٍ تجوب بحرًا بلا مرسى.
الماء البارد أطبق عليهما كغطاء الليل، وبينما كان الحصان يصارع لينتشل نفسه من عناق الأمواج، كانت إصابة عمران تصرخ فيه بألم الحقيقة المُرة. مُني بجروح ليست عميقة في الجسد فحسب، بل في الروح أيضًا. وهكذا، مع كل ضربة موج على صخرة النهر، كان يُدرك عمران أن مشاركته في المسابقة قد انتهت، ليس لأنه لم يفز، بل لأنه خسر نفسه في غروره الذي طغى على حكمته.
حين حل موعد مسابقة الشعر، ارتقى عمران المنصة بخطى مفعمة بالأمل والثقة. كان يحمل بين طيات قلبه قصيدةً نسجها من خيوط الفجر وأحلام الليالي المقمرة، قصيدة كتبها بنفسه، عبرة عن تأملاته وأحاسيسه العميقة. وقف هناك، أمام جمهور غفير يترقب الأبيات الرنانة، يتوقون لسماع الشعر الذي يروي الروح ويحرك القلوب.
مع ذلك، في غمرة حماسه الجارف، تسربت من بين أنامله فرصة ثمينة لمراجعة الأبيات والتأكد من الوزن والقافية. لم يعِ عمران بأن الشعر العربي يطلب الدقة والمهارة في توظيف اللغة وترتيب الكلمات بما يناسب أحكام البحور والروي.
وهكذا، حين بدأ يلقي قصيدته، اختلط الحابل بالنابل، وتعثرت الكلمات على لسانه، فاضطرب الوزن وتشوهت القافية. كانت الأبيات التي ظنها نجوماً تتلألأ في سماء الأدب، تتساقط واحدة تلو الأخرى كأوراق خريف ذابلة لم تجد لها مأوى في قلوب السامعين.
الجمهور الذي كان يتوق للجمال، وجد نفسه أمام معانٍ مبعثرة وإيقاع مكسور. بدأت همسات السخرية تنتشر بين الصفوف كنار في هشيم، والضحكات المكتومة ترتفع شيئاً فشيئاً. كل نظرة، كل همسة، كل ضحكة، كانت كسهم يخترق قلب عمران، يُذكِّره بأن الشعر ليس مجرد كلمات تُرتب على عجل، بل هو فن يتطلب الصبر والتأني والعناية.
تلاشى حلم النصر الباهر الذي راوده، وبقي واقفًا هناك، محطم الفؤاد، يُدرك أنه قد خسر ليس فقط مسابقة الشعر، بل أيضًا احترامه للفن الذي أساء إليه بتهوره وعدم تحضيره. وفي تلك اللحظة، كانت الدروس قاسية والعبر مريرة، ولكنها ضرورية لمن يطمح أن يكون شاعرًا يُترجم أحاسيسه إلى كلمات تعانق الأرواح، لا أن تُثير السخرية.
عاد عمران إلى دياره، وقد خيّم عليه الصمت الثقيل كغيمة صيف عابرة تخفي وراءها وعدًا بالعواصف. في تلك اللحظات المعتمة من حياته، حيث الظلال تطوق الروح، أدرك عمران أنه يقف على مفترق طرق: إما أن يغرق في مستنقع اليأس، أو يجد طريقًا يقوده إلى النور.
في صمت غرفته، حيث كان يجلس وحيدًا مع ذكريات الفشل تلوح في أفق ذهنه، بدأ عمران يستعيد كلمات والدته المحفورة في ذاكرته: “من يقع بنفسه لا يبكي”. تلك الكلمات كانت كالنسيم في ليلة حارة، تُريح القلب المُثقل وتُشعل في الروح نار الأمل.
قرر عمران ألا يسمح للظروف أن تقرر مصيره. كان يعلم أن الطريق إلى الإتقان والنجاح مُحفوف بالتحديات، ولكنه أدرك أيضًا أن كل خطوة نحو التحسين هي خطوة نحو تحقيق ذاته. بدأ بتدوين ملاحظاته وأفكاره، محاولًا تحديد الأخطاء التي ارتكبها وكيف يمكنه تجنبها في المستقبل.
أولى خطواته نحو التغيير كانت تعلم الصبر. لم يعد يرغب في أن يكون مثل النهر الذي يجري بقوة دون وعي بما يحمله إلى البحر. بدلًا من ذلك، أراد أن يكون كالشجرة التي تنمو ببطء، ولكن بثبات، مستمدة قوتها من جذورها العميقة. تعلم أيضًا كيفية تقييم الظروف بدقة أكبر، وكيف أن كل قرار يتخذه يجب أن يكون مدروسًا ومستنيرًا بالمعرفة والتجربة.
بمرور الأيام، بدأت القرية تلاحظ التغيير في عمران. لم يعد ذلك الشاب المتهور الذي يقدم على كل شيء بلا تفكير. أصبح أكثر تأنيًا وتفكيرًا، يستمع أكثر مما يتكلم، ويتعلم من كل تجربة يمر بها. وفي كل مساء، عندما يعود إلى بيته، ينظر إلى السماء مُتأملاً، شاكرًا للأيام التي علمته كيف يكون سيد نفسه، وكيف أن السقوط في الحياة، مثل السقوط في الحب، يمكن أن يكون بداية لقصة جديدة، وليس نهاية.
مع مرور الوقت، تحولت خيبات عمران إلى دروس تراكمت كاللآلئ في صدفة حياته. بدأ يستشعر عمق الحكمة في كل خطأ ارتكبه، وكانت كل خطوة خاطئة تقوده نحو النور بدلاً من أن تغرقه في الظلام. علّمته أخطاؤه أن في الفشل بذور نجاح مستقبلي، إذا ما تم استقبالها بقلب واعٍ وعقل مفتوح.
وجد عمران في الكتابة ملاذاً ومرساة. بدأ يكتب بشغف عن تجاربه، متحولًا من شاب متهور إلى مفكر وكاتب يتأمل في دقائق الحياة. كان يسطر الكلمات التي تروي قصة تحوله، لعلها تكون يومًا منارة لروح تائهة تبحث عن الضوء في نفق اليأس.
في الأمسيات الهادئة، كان يجلس تحت ظل شجرة الزيتون العتيقة في فناء بيته، يقرأ للعظماء من الشعراء والفلاسفة. تعلم كيف يستمع لهمسات الطبيعة، وكيف يترجم السكون إلى كلمات تبعث على التأمل. كان القلم يرقص بين أنامله، مخطًا أبياتًا من الشعر تنبض بالحياة، وتشهد على عمق تجربته وصدق مشاعره.
شيئًا فشيئًا، بدأ يشعر بأنه يُعيد بناء نفسه، ليس فقط كشخص يسعى وراء النجاح، بل كروح تسعى وراء الحكمة والمعرفة. كانت كلمات والدته تتردد في ذهنه كل ليلة قبل النوم: “من يقع بنفسه لا يبكي”. هذه الكلمات لم تعد تعني له الاستسلام للقدر، بل أصبحت تحثه على النهوض كل مرة يقع فيها، مسلحًا بالأمل والإرادة.
وفي إحدى المسابقات التي أُقيمت في القرية، عاد عمران ليشارك مرة أخرى، لكن هذه المرة بروح مختلفة. لم يكن يسعى للفوز بالجائزة الأولى، بل كان يهدف إلى إظهار مدى تطوره ونضجه. وقف أمام الجمهور بثقة هادئة، يلقي قصيدة صاغها من قلبه، تتحدث عن رحلة الفشل إلى النجاح، عن اليأس والأمل، وعن الخسارة التي تتحول إلى مكسب عندما يُفهم معناها حقًا.
كانت القصيدة معبرة لدرجة أنها لمست قلوب الحضور. تلقى تصفيقًا حارًا ليس فقط لجمال الكلمات ولكن لعمق المعنى وصدق العاطفة. عمران، الذي كان يومًا ما شابًا متهورًا، أصبح الآن مثالًا للشاب الذي تعلم كيف يستثمر أخطاءه لبناء مستقبله.
كانت لحظة الانتصار تلك نقطة تحول في حياة عمران. لم يعد يُقاس نجاحه بمدى التصفيق أو عدد الجوائز التي يحصل عليها، بل بمدى الأثر الذي يتركه في قلوب الآخرين. فقد اكتشف عمران أن الكلمات عندما تُبنى من قِبل روحٍ صادقة وقلبٍ مرهف، تصبح جسوراً تربط بين الأرواح، تخترق الصمت، وتلامس الوجدان.
أصبح عمران يقضي أيامه في تعليم الشباب الصغار ما تعلمه من دروس الحياة. كان يرى في عيونهم نفس الحماسة والعزم الذي كان يحترق به في صباه، لكنه كان حريصاً على أن يزرع فيهم حب الحكمة قبل حب الفوز، وأن يعلمهم كيف يصنعون من الفشل سلماً نحو النجاح.
كانت الأمسيات تمر وعمران يجلس تحت النجوم، يكتب الأشعار ويروي القصص لكل من يرغب في سماعها. قصص عن أخطاء تحولت إلى دروس، وعن أحلام كادت أن تتحطم على صخور اليأس لولا قوة الإرادة والصبر.
وفي كل مرة يمر بجانب النهر أو يعبر الغابة التي كانت مسرحاً لأخطائه القديمة، كان يبتسم برضا، مدركاً أن كل خطوة أخطأ فيها كانت بمثابة دفعة نحو تعلم شيء جديد. كان يفهم الآن أن الحياة ليست سلسلة من الانتصارات أو الهزائم، بل رحلة من التعلم والنمو.
وذات يوم، قرر عمران أن يكتب كتاباً يجمع فيه خبراته، كتاباً يمكن أن يكون منارة للشباب الذين يشقون طريقهم في الحياة. “من يقع بنفسه لا يبكي”، هذا ما سماه، تيمناً بتلك الكلمات التي ألقت به في غمار التجربة، وأخرجته منها كإنسان جديد.
في ليلة إطلاق الكتاب، امتلأت القاعة بأصوات التصفيق الحار والهمسات المليئة بالإعجاب. كانت العيون تلمع بالأمل والإلهام، وكانت القلوب تنبض بالاعتزاز. وقف عمران أمام الحضور، شامخاً كالسنديان، ممتناً لكل الدروس التي علمته كيف يعيش، كيف يحب، وكيف يترك أثراً يبقى.
بهذا الكتاب، لم يكن عمران يسعى للشهرة أو المجد الزائل، بل كان يأمل أن يسهم في صنع عالم يفهم أن الفشل ليس نهاية الطريق، بل هو بداية جديدة لمن يدرك كيف يستفيد منه. وكان يعلم أن مهما طال الزمن، فإن الكلمات التي كتبها ستبقى كبذور يمكن أن تنبت في تربة الأرواح الباحثة عن النور في دروب الحياة الوعرة.