الأم في قلب الواقع وليس على شاشات المواقع

إنّ الأم، بحد ذاتها، رمزٌ للأصالة والتضحية التي لا تنضب، هي القلب الذي ينبض حُبًّا وحنانًا في عالم يزداد يومًا بعد يوم غربةً وبرودةً. في زمن التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من المعتاد أن نرى الأبناء يعبّرون عن حبهم لأمهاتهم عبر منشورات وصور تنشر على الفيسبوك أو إنستغرام، وكأن الحب يمكن أن يُختزل في كلمات أو صور تشارك على الشاشات. ولكن، هل هذا هو الحب الذي تستحقه الأم؟ وهل هذا هو البر الذي نادى به الدين والقيم الإنسانية الأصيلة؟

الأم، تلك الكلمة التي تحمل في طياتها كل معاني العطاء بلا حدود، هي التي تعبت وسهرت من أجل راحتنا، وهي التي علّمتنا الحب دون أن تنتظر منا شيئًا سوى أن نكون بخير. إن حُبَّ الأم لا يُقاس بعدد الإعجابات على منشور في وسائل التواصل، بل يقاس بما نقدمه لها من وقتنا واهتمامنا ورعايتنا. إنّ الفعل اليومي هو ما يُظهر حبنا وامتناننا الحقيقيين، لا مجرد الصور التي نلتقطها لنبدو أمام الآخرين أبناء بارين.

إنّ برّ الأم يتجلّى في الأفعال البسيطة، في اهتمامنا بصحتها وراحتها، في مشاركتها لحظات الفرح والحزن، وفي الاستماع إلى حكاياتها التي قد تبدو لنا أحيانًا مكررة ولكنها تختزل في طياتها عبق الزمن وذكريات الأمومة التي لا تُنسى. إنّ الأم ليست مادة للتفاخر أمام الآخرين، بل هي جوهرة ثمينة يجب أن تُحفظ في القلب والعقل، وأن تُعامل بالتقدير والاحترام الذي تستحقه.

وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون سلاحًا ذو حدين؛ فهي تتيح لنا الفرصة للتواصل مع من نحب، لكنها أيضًا قد تخلق فجوة بيننا وبين أحبائنا حينما تتحول إلى وسيلة لاستعراض حياتنا أمام الآخرين. هل نريد أن يكون حبنا لأمهاتنا مجرد مظهر اجتماعي نبحث من خلاله عن تقدير المجتمع؟ أم نريد أن يكون هذا الحب نابعًا من القلب، ومجسدًا في كل عمل وكلمة؟

علينا أن نتأمل في هذا السؤال بعمق. إنّ الأم تستحق أن نحبها في الواقع، في تلك اللحظات التي نكون فيها معها، نشاركها أحزانها قبل أفراحها، نحمل عنها بعض أثقال الحياة التي حملتها لأجلنا طوال السنين. هذا هو الحب الحقيقي، وهذا هو البر الذي يعلو فوق كل اعتراف افتراضي أو تصفيق إلكتروني.

ولكي يكون حبنا للأم حبًا حقيقيًا، يجب أن يكون جزءًا من حياتنا اليومية، يتجسد في الأفعال الصغيرة والكبيرة على حد سواء. أن نكون بجانبها عندما تحتاج إلينا، أن نشاركها تفاصيل يومها، أن نمنحها من وقتنا واهتمامنا كما منحتنا هي كل حياتها. إن الأم لا تنتظر منا صورًا تُنشر على الإنترنت، بل تنتظر منا أن نكون حضورًا حقيقيًا في حياتها، أن نشعرها بالأمان والراحة والسكينة في كل لحظة.

في زمن نعيش فيه تحت وطأة الضغط الاجتماعي والبحث المستمر عن الاعتراف والقبول، يجب أن نتذكر أن العلاقات الأسرية، وخاصة علاقة الابن بأمه، هي أعمق بكثير من أي اعتراف يمكن أن نحصل عليه عبر الإنترنت. فهذه العلاقات تتطلب منا صبرًا وجهدًا وتفانيًا لا يمكن اختصاره في لحظات نلتقطها بالكاميرا أو في كلمات نكتبها على عجل.

الحب للأم يجب أن يكون حبًا لا مشروطًا، حبًا يتجاوز الكلمات إلى الأفعال، حبًا يتجلى في تلك اللحظات التي نكون فيها صامتين ولكننا معًا، في تلك الأعمال التي نقوم بها دون انتظار الشكر أو الامتنان. هذا هو الحب الذي يرسخ في القلب ويظل حاضرًا في كل الأوقات، حبًا يستمد قوته من الإخلاص والتفاني والاحترام العميق الذي يكنّه كل ابن صالح لأمه.

فلنحرص على أن نكون أبناء حقيقيين، أبناء يعبرون عن حبهم بأفعالهم اليومية، أبناء لا يبحثون عن التقدير الاجتماعي بقدر ما يبحثون عن رضا أمهاتهم وسعادتهن. فلنكن أبناء يفضلون الواقع على المواقع، يفضلون الجوهر على المظهر، لأن الأم تستحق منا أكثر بكثير مما يمكن أن تعبر عنه صورة أو منشور. تستحق منا حياة مليئة بالمحبة والعطاء، حياة تكون فيها هي الملكة المتوجة على قلوبنا وعقولنا.